يمكن أن نبدأ الحديث عن بداية نشأة الكون والمادة الأولية التي خلق منها في تراث آل البيت
1- من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث يقول:
(إن الله تعالى أول ما خلق الخلق، خلق نوراً ابتدعه من غير شيء، ثم خلق منه ظلمة، وكان قديرا أن يخلق الظلمة لا من شيء كما خلق النور من غير شيء، ثم خلق من الظلمة نورا وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين، ثم زجر الياقوتة فماعت لهيبته فصارت ماء مرتعدا ولا يزال مرتعدا إلى يوم القيامة، ثم خلق عرشه من نوره وجعله على الماء)-بحار الأنوار ج 44 ص 194.
2- كذلك ورد عنه في الخطبة الأولى من نهج البلاغة:
(أنشأ الخلق إنشاء وابتدأه ابتداء، بلا روية أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها. أحال الأشياء لأوقاتها ولاءم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها وألزمها أشباحها، عالما ( بها ) قبل ابتدائها ، ومحيطا بحدودها وانتهائها ، عارفا بقرائنها وأحنائها ، ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء ، وشق الأرجاء ، وسكائك الهواء فأجرى، فيها ماء متلاطما تياره، متراكما زخاره ، حمله على متن الريح العاصفة والزعزع القاصفة، فأمرها برده، وسلطها على شده، وقرنها على حده: الهواء من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق. ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها وأدام مربها وأعصف مجريها، وأبعد منشأها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار وإثارة موج البحار فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء، ترد أوله على آخره، وساجيه على مائره حتى عب عبابه ورمى بالزبد ركامه، فرفعه في هواء منفتق، وجو منفهق فسوى منه سبع سماوات جعل سفلاهن موجا مكفوفا، وعلياهن سقفا محفوظا وسمكا مرفوعا بغير عمد يدعمها، ولا دسار ينتظمها، ثم زينها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب فأجرى فيها سراجا مستطيرا، وقمرا منيرا ، في فلك دائر ، وسقف سائر ، ورقيم مائر. ثم فتق ما بين السماوات العلى، فملأهن أطوارا من ملائكته)-نهج البلاغة، عيون
المواعظ والحكم (الواسطي)، ربيع الأبرار (الزمخشري)، مطالب السؤول (ابن طلحة الشافعي).
3- وروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر قوله:
(وكان الخالق قبل المخلوق، ولو كان أول ما خلق من خلقه الشيء من الشيء إذا لم يكن له انقطاع أبداً، ولم يزل الله إذا ومعه شيء وليس هو يتقدمه، ولكنه كان إذ لا شيء غيره، وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل الماء نسبا يضاف إليه، وخلق الريح من الماء، ثم سلط الريح على الماء فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء ان يثور، فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع ولا ثقب ولا صعود ولا هبوط ولا شجرة ثم طواها فوضعها فوق الماء، ثم خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله أن يثور ، فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية ليس فيها صدع ولا ثقب، وذلك قوله: والسماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها قال : ولا شمس ولا قمر ولا نجوم ولا سحاب، ثم طواها فوضعها فوق الأرض ، ثم نسب الخلقتين فرفع السماء قبل دحو الأرض فذلك قوله عز ذكره : {والأرض بعد ذلك دحاها} يقول بسطها)- روضة الكافي.
4- وعنه أيضاً :
(كان كل شيء ماء وكان عرشه على الماء فأمر جل وعز الماء فاضطرم نارا ، ثم أمر النار فخمدت فارتفع من خمودها دخان ، فخلق السماوات من ذلك الدخان ، وخلق الأرض من الرماد)-روضة الكافي.
ومن يتأمل هذه الروايات يجدها متوافقة مع تلك الآيات الكريمة التي تحدثت عن بداية نشأة الكون. حيث تقرر الرواية الأولى أن الله خلق نوراً والنور أحد أنواع الطاقة ثم ضم تلك الطاقة في قطعة صغيرة (ياقوتة) غليظة كغلظة السماوات والأرض أي ذات كثافة عالية جداً (تفرد-singularity). ثم زجر تلك الياقوتة فماعت وانفجرت وصارت ماءً كمادة أولية تظل مرتعدة ومتذبذبة وذلك ما تقرره ميكانيكا الكم وما يبدو واضحاً في الجسيمات الذرية.
وأما الرواية الثانية فهي تتحدث بشكل واضح عن فتق الأجواء وشق الأرجاء وقد أوضحنا أن الفتق لايكون إلا بعد رتق. فهذا يشير إلى أن الأرجاء والفضاء كان مجتمعا بالإضافة إلى الطاقة قبل الفتق أو الانفجار. وسكائك الهواء هي جمع سكة وهي الطريق فتلك الرواية تحدد وبوضوح أن لهذا الفضاء طرق وهو ما تقرره النظرية النسبية العامة لانتقال الأجسام في فضاء الزمن الذي قد يكون منحنياً عند وجود الكتل. وأما ما يلي تلك العبارة من الحديث عن الريح فإن الريح يمكن أن تكون القدرة والقوة كما سخرت لسليمان. والقوة هنا بجميع أنواعها وأهمها في بداية الانفجار هي القوة النووية ثم الكهربية ثم في الأخير الجاذبية التي تؤدي إلى تجمع أجزاء تلك الأجرام الناتجة والتفافها على بعضها لتشكل المجرات (كما تمخض السقاء).
وأما الرواية الثالثة فتشير بوضوح إلى المادة الأولى التي نشأ منها الكون ونشأت منها كل الأشياء وهو الماء والذي هو المادة البسيطة التي لا تنسب إلى غيرها (فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل الماء نسبا يضاف إليه). وتشير إلى أن الريح (القوى) تكونت من نفس المادة الأولية. ثم تعمل تلك القوى على تجميع الأجزاء المتباعدة فتتكون النجوم والكواكب البدائية. حتى استعرت النجوم والشمس قبل اعتدال حركة الأرض.
وأما في الرواية الرابعة فهي رواية جامعة وواضحة وبليغة في أمر نشأة الكون وتكوُّن أجزائه وبلغة مناسبة للعام 58هـ كما هي مناسبة ليوم الناس هذا. كل شيء كان مادة أولية إذن فسلطة الخالق كانت على تلك المادة. ثم زودها سبحانه بالطاقة فاضطرم وهو الاحتراق بنوع من التفجر ثم بمشيئته وتقديره برده بانخفاض طاقة الانفجار فتكونت الأرض وهي كوكب صخري من الغبار والرماد المتكون نتيجة ذلك الانفجار بعد تجمعه بقوة الجاذبية. وأما باقي الدخان فتكونت منه الأجرام الغازية مثل بعض الكواكب والنجوم والمجرات التي تشكل السماوات بالنسبة للأرض.
فما أوجز وأبلغ هذا كلام!