¨°o.O ( شرح دعاء الجوشن الكبير ) O.o°"
شرح فقرة: "سبحانك يا لا اله الا انت، الغوث الغوث خلصنا من النار يارب "
نبدأ الان بأحد الادعية، فيما يتسم هذا الدعاء باهمية كبيرة، وهو ما يطلق عليه (الجوشن الكبير)، حيث نُزِل به على النبي(ص)، بصفة امانا له(ص) ولامته،..
وهو يحتوي على الف اسم من اسماء الله تعالى موزعا على مائة فقرة، كل واحدة تتضمن عشرة من اسمائه تعالى، مسبوقة بالبسملة، وبفقرة (سبحانك يا لا اله الا انت، الغوث الغوث خلصنا من النار يا رب) حيث يُختم بها كل فقرة من الفقرات البالغة (100).
ونبدأ اولا بالعبارة المكررة في نهاية كل فصل، ونعني بها عبارة (سبحانك يا لا اله الا انت، الغوث الغوث، خلصنا من النار يا رب) مع ملاحظة ان بعض النسخ تضاف اليها عبارة (صلّ على محمد وآله)..، حيث ان هذه الصلاة تصرح النصوص الشرعية العامة بان تقديمها في الدعاء: له اسهامه في قبوله او الاستجابة. لنبدأ اولاً بملاحظة الفقرة اة العبارة المكررة في فصول الدعاء.
فقرة الدعاء المتكررة في كل فصل تنطوي دون ادنى شك على نكات متنوعة، حيث ان التكرار نفسه له اهميته البلاغية في تعميق وتاكيد الدلالة المستهدف توصيلها الى قارئ الدعاء،... بالاضافة الى ان موقع تكرارها له خصوصية هي:
انها بمثابة محطة او استراحة او نقطة محورية تدور عليها الموضوعات المتجددة... والمهم الان ملاحظة هذه المحطة او المحور الذي تدور الموضوعات المتجددة عليه في جميع فصول الدعاء، وهي فقرة (سبحانك يا لا اله الا انت، الغوث الغوث، خلصنا من النار يا رب).
ان هذه الفقرة تتضمن ثلاث عبارات، الاولى منها: تمجيد الله تعالى وهي عبارة (سبحانك يا لا اله الا انت)، والثانية:
هي (الغوث، الغوث)، والثالثة هي (خلصنا من النار يا رب)...
العبارة الاولى هي: تمجيده تعالى بعبارة (سبحانك يا لا اله الا انت) ... ان هذه العبارة لعلها تتردد على السنتنا في غالبية الادعية، حيث ان (سبحانك) هي: التسبيح له تعالى، والتثنية، والتقديس...، اما عبارة (لا اله الا انت) فهي: التوحيد الخالص: كما هو واضح، وحينئذ فأن الدعاء حينما يُفتتح بتقديسه تعالى وبتوحيده: عندئذ فان فاعليته (اي الدعاء) ستأخذ مكانها العظيم، وهو ما يستهدفه الدعاء دون ادنى شك...
واما العبارة الثانية فهي: (الغوث، الغوث) ...وهذه العبارة لها جملة نكات، منها: التكرار، حيث قلنا بان التكرار لعبارة ما تعني: توكيد الدلالة وتعميقها في ذهن القارئ للدعاء،...
ومنها اي نكات التكرار، انه مصحوب بتكرار آخر،اي: ان قارئ الدعاء عندما يكرر كلمة (الغوث) مرتين من جانب، وحينما يكرر تلكين العبارتين مائة مرة، عندئذ: تتعمق وتترسخ الدلالة، كما هو واضح...
يضاف الى ما تقدم ان كلمة (الغوث) ذاتها هي: صراخ او توسل حاد يجسد اعلى وشد الحالات النفسية لدى قارئ الدعاء: لانه يستغيث (ليس مرة واحدة) بل مرتين بالله تعالى بان ينقذه من الشدة المتمثلة في كتاب جهنم: اعاذنا الله تعالى جميعنا من ذلك...
اما العبارة الثالثة فهي: من اشد العبارات المتقدمة الحاحاً وفاعلية، لان العبارة السابقة عليها تمهيد للظاهرة الاخيرة وهي عبارة (خلصنا من النار يا رب)...
ان خلاص القارئ للدعاء من نار جهنم لا يجسد الا ما هو الاهم من اهتمامات وتطلعات القارئ للدعاء... صحيح ان الاهمية العظمى هي ان يكون اهتمام الانسان برضوان الله تعالى اولا، ثم بتخليصه من النار ثانيا، ولكن الدعاء عندما ينتخب لنا عبارة (خلصنا من النار يا رب) انما يلفت نظرنا الى اهمية من النمط الاخر، الاوهي: ان عملية العقاب بذاتها تعبير عن غضبه تعالى على العبد، فأذا تخلص من العقاب فمعناه: كسب رضاه تعالى من جانب، وحفظ سمعته امام الآخر من جانب ثان ٍ، وتنبيهه على ضرورة ان يجتنب غضب الله تعالى في حياته الدنيا من جانب ثالث، اي: ان مجرد نطقنا بعبارة (خلصنا من النار) تجعلنا ننتبه على ضرورة ان نجتنب كبائر ما ينهى الله تعالى عنها الا،...
كل عبارة من مقطع الدعاء المتكرر المتضمن تمجيد الله تعالى والاستغاثة به، والتوسل بتخليص قارئ الدعاء من النار: اولئك جميعاً لها نكات متنوعة بالنحو الذي اوضحناه. نسأله تعالى ان يخلصنا من النار فعلاً، وان يوفقنا الى طاعته والتصاعد بها الى النحو المطلوب
شرح فقرة: "اللهم اني أسألك باسمك يا الله، يا رحمان، يا رحيم، يا كريم، يا مقيم، يا عظيم..."
نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها: الدعاء الموسوم ب(الجوشن الكبير)، حيث يتضمن اسماء الله تعالى وهي الف (1000) تنتظم في (100) فقرة، كل واحدة تتضمن عشرة من تاتسماء الكريمة، واولها على هذا النحو: (اللهم اني أسألك باسمك يا الله، يا رحمان، يا رحيم، يا كريم، يا مقيم، يا عظيم، يا قديم، يا عليم، يا حليم، يا حكيم...).
ان أول اسم من الاسماء العشرة هو (الله) تعالى، وهذا الاسم ينفرد من بين الاسماء بكونه لا يستخدم البتة في غير الذات المقدسة لمبدع الوجود، بينما تستخدم الاسماء الاخرى: كالرحمن او الرحيم او في سياقات متنوعة...
ولعل تفرده تعالى علاقة بتفرد الاسم ايضاً، اي: تفرّد ذاته تعالى مع تفرد اسمه (الله) .
ونتجه الى الاسم الثاني وهو (يا رحمن) حيث ينبغي ألا ّ نفصله عن الاسم الثالث وهو: (يا رحيم) ...
وسر ذلك هو: ان (الرحمة) هي الدلالة المشتركة بين الاسمين (الرحمن، الرحيم) ،... كما ان ورودهما في البسملة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، و ورودهما في سورة الحمد (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) مضافاً الى سياقات قرآنية متنوعة، وسياقات حديثية متنوعة،.. اولئك جميعاً تفسر لنا سراً من الاسرار الكامنة وراء استخدامهما متجاورتين.
بيد ان الفارق بين الاسمين المذكورين (وهو ما ينبغي الانتباه عليه) هو ان (الرحمان) يُستخدم ــ كما ورد عن المعصومين عليهم السلام ــ في الرحمة العامة او المطلقة، اي الشاملة او المنسحبة على البشر جميعاً مثلاً، بينما تنسحب صفة (الرحيم) على المؤمنين، اي: ان رحمته تعالى تصيب المؤمن من المخلوقات.
هنا، قبل ان نتجه الى الاسم الرابع، وسائر الاسماء الواردة في هذا المقطع من الدعاء، وسائر المقاطع، نعتزم لفت النظر الى نكتة مهمة هي: ان استهلال الدعاء بمفهوم (الرحمة) بعد استهلاله بالذات الالهية (الله) ،... هذا الاستهلال له دلالته وطرافته، وهي: ان (الله) تعالى (رحمة) للمخلوقات قبل ان يكون شيئا آخر، ولا مفهوم يُتصور في الصلة بين الخالق وبين المخلوق اكثر من التصور لمفهوم (الرحمة) اوالخير و نحو ذلك،... وهذا يعني ان الله تعالى خير محض، وان رحمته تسبق غضبه.
والان بعد ان ادركنا سراستهلال الدعاء بصفة (الرحمة) بنمطيها: العام والخاص، نتجه بعدئذ الى سائر الاسماء او الصفات الواردة في المقطع الاول من الدعاء، وهو: (يا كريم) ... فماذا نستخلص من هذه الصفة؟
اذا كانت (الرحمة) تعني: الخير المحض، فان للخير مصاديق متنوعة كما هو واضح، وفي مقدمة ذلك: سمة (الكرم)،... ولكن السؤال هو: مالمقصود من المصطلح المذكور؟... هل يُقصد به: السخاء والجود ونحوهما من الظواهر المتصلة بالعطاء؟ ام يقصد بذلك كرم الذات المقدسة؟ اي: النزاهة والتقديس والعز والشرف...؟
اغلب الظن ان المقصود هو الاخير لان الكرم بدلالة السخاء والجود سوف نلاحظه في مقاطع لاحقة، بالاضافة الى ان (الكرم) بالمعنى الذي احتملناه يتساوى مع الاسماء الاستهلالية للدعاء، وهي: الله تعالى، الرحمان، الرحيم، بصفة ان (الكرم) هو السمو المتجسد في السمات التى ذكرناها قبل قليل...
ونتجه الى الاسم الخامس وهو: (يا مقيم) ، فماذا نستخلص منه؟
ثمة استخلاصات متنوعة يستطيع الملاحظ بأن يحتملها في هذا السياق، وذلك مثل: الديمومة، ومثل القيام بالامر، او التولية، او العناية...، وحينئذ يكون الموضوع حائماً على القيام بالامر وهو: الوجود وفعالياته المتنوعة، حيث يتقوم بفاعلية الله تعالى..
واما الاسم السادس فهو: (يا عظيم) ،... وهو اسم او صفة لا نعتقد ان احداً منها يحمل دلالة ذلك، حيث ان (العظمة) منحصرة في دلالتها بالله تعالى، انه تعالى رحمان بعامة المخلوقات، رحيم بخواصها، كريم حيالهم، قائم بأمورهم، وعظيم في ذاته الفاعلة على الوجود.
اذن الاسماء المذكورة، وما يعقبها من الاسماء الواردة بالمقطع الاول من الدعاء، لها دلالتها من حيث الاستهلال بها، ومن حيث دلالاتها التي ذكرناها، وما نذكره لاحقاً ان شاء الله تعالى. نسأله تعالى ان يوفقنا للطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب
شرح فقرة: "يا قديم، يا علي، يا حليم، يا حكيم"
هذه الاسماء الاربعة هي امتداد لما سبقها من الاسماء التي حدثناك عنها في لقاء سابق.. ونعتزم الان ان نحدثك عن الجديد منها، وهي ـ كما قلنا (القديم، العليم، الحليم، الحكيم)... سلفا ينبغي ان ندرك بان هذه الاسماء وما سبقها ليست خاضعة لمجرد ما يسمى بالسجع، بل هي اسماء تتجانس في دلالاتها كما تتجانس في اصواتها... ان مصطلح (قديم) يعني: ازلية الله تعالى، اي: لم يكن (حادثاً)، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، غير مسبوق بحدوث.
ويقابله (الحادث) وهو: الظاهرة التي لم تكن موجودة سابقا، ووجدت فيما بعد: كالكون الذي حدث بفعل الله تعالى ولم يكن له وجود في السابق... والاهمية المترتبة على ما هو (قديم) مقابل ما هو (حادث) هو: ان القديم يكون (منزها) من الحدوث: حيث يتسم الحادث بما هو تجسيم بينما الله تعالى منزه عن ذلك: كما هو بين... بعد ذلك نواجه كلمة (عليم)، ولا نعتقد ان احد منا يجهل دلالة ذلك،.. ان الله تعالى (عليم) بكل شيء، لا جهل للاشياء لديه، بل محيط بها حيثما اوجدها تعالى...
اي ان كلمة تعالى مطلقاً لا حدود له،... بيد ان ما ينبغي لفت النتباه عليه هو: ان صفة (العلم) عند الله تعالى تستخدم في المجال القراني الكريم ومطلق النصوص الشرعية في صياغات متنوعة، منها: العليم، ومنها: العالم، ومنها: العلام،.. ومن الطبيعي ان لكل صياغة دلالتها المختلفة عن غيرها، فانت تقرأ مثلاً قولله تعالى (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)، وتقرأ قوله تعالى (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وتقرأ قوله تعالى (عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) ...
ان كل واحدة من هذه الصياغات لها دلالتها من حيث السياق الذي ترد فيه، فمثلا صيغة (العالم) تظل هي الصياغة العامة لما يجسده العلم، فقوله تعالى (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) : يعني انه يعلم الغيب كما يعلم الشاهد، ولكن اذا قلت (عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) حينئذ فان العلم يكون هنا في سياق التاكيد والمبالغة الحقة،.. واما لو استخدمت صيغة (عليم) فانها تكون اقل تاكيد في سياقها الخاص،...
اذن: كل صيغة لها سياقها الخاص الذي تتترد فيه، ونحن حينما نواجه عبارة (يا عليم) نكون قد واجهنا صيغة المبالغة ولكنها الاقل من صيغة (علام)، لان العلام جاءت مثلا في سياق (الغيب) فتتطلب مبالغة في العلم، ببينما تجن صيغة عالم في سياق الغيب وفي سياق الشهادة، في حيث تجن صيغة عليم سياق التاكيد على مطلق العلم، وهو يتساون مع الصفات التي وردت في مقطع الدعاء الاول.
بعد ذلك نواجه صيغة (يا حليم)، وهي تعني: صيغة (الحلم): كما هو واضح،... والحلم هو: الاناة والصبر والسكون مع القدرة والقوة،... وهي سمة لذاته تعالى متسمة كسائر صفاته بما هو مطلق لاحدود له ولولا حلمه تعالى ـ على سبيل المثال ـ حيال البشر، لساخت الارضون بهم...
السمة العاشرة في مقطع الدعاء الاول هي: (يا حكيم).
وهذه السمة لاتحتاج بدورها الى مزيد من التوضيح بقدر ما تحتاج الى القاء الضاءة على دلالتها المرتبطة بمفهوم (الحكمة)، حيث تتفاوت النصوص اللغوية والنصوص التفسيرية في تحديد ما هو حكمة بالقياس الى الاستخدام الشائع لها، حيث ان الاستخدام الشائع لعبارة (الحكمة) هو: الكلام الموافق للحق او السداد او العقل..الخ..، مثلما تستخدم في سياقات خاصة بمعني اشد خصوصية عندما تطلق على الانبياء مثلاً.. والمهم هو: ان سمة (حكيم) تظل في السياق الذي وردت فيه وهو المقطع الاول من دعاء الجوشن متناسقة مع سمات (عليم) و (حليم) ونحوهما مما ينصح اولا عن التجانس في الصيغة المبالغة، وثانياً في التجانس بين ما هو: علم وبين ما هو حلم وبين ما هو حكمة من حيث انتسابها جميعاً الى القدرة المعرفية بنحو عام.
اذن امكننا ان نحدثك عن المقطع الاول من دعاء الجوشن، وهو المقطع الذي تضمن اسم الله تعالى، ورحمته تعالى، وعظمته تعالى، ومعرفته تعالى... وسنحدثك لاحقا ان شاء الله تعالى عن سائر المقاطع... وحتى ذلك الحين نساله تعالى ان يوفقنا دوما الى الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب
شرح فقرة: "يا سيد السادات، يا مجيب الدعوات..."
نحن الان مع المقطع او الفصل الثاني من الدعاء المعروف (الجوشن الكبير)، حيث يتضمن كل مقطع عشرة اسماء من اسمائه تعالى،... ويبدأ هذا المقطع بهذه الفقرات: (يا سيد السادات، يا مجيب الدعوات، يا رافع الدرجات، يا ولي الحسنات، يا غافر الخطيئات، يا معطي المسئلات، يا قابل التوبات، يا سامع الاصوات، يا عالم الخفيات، يا دافع البليات).
ان هذا المقطع من الدعاء يتضمن دلالة خاصة هي: التوسل بالله تعالى من خلال جملة صفات، والمقطع وان لم يتوسل مباشرة ولم يطلب شيئا الا ان لحن الخطاب يوحي بذلك بنحو واضح... واذا علمنا ان المقطع الاول من الدعاء كان يُستهل بالاشارة الى الاسم الخاص (الله) تعالى، والى مفهوم الرحمة، ثم الى مفهومات متنوعة تتصل بكرمه وحلمه وعلمه....، حينئذ نستخلص بوضوح بان المقطع الثاني وما يتعقبه في سياقات متنوعة: تظل صدى او ترجمة لما ورد في المقطع الاستهلالي للدعاء... والان: بعد ان ادركنا هذه الحقيقة نتجه الى المقطع الثاني، ونحدثك عن التوسلات الواردة فيه، واولها عبارة: (يا سيد السادات، يا مجيب الدعوات...).
فماذا نستخلص من العبارة الاولى؟
العبارة تقول (يا سيد السادات)،... وادنى تامل لهذه العبارة او الاسم او الصفة يتداعى الى اذهاننا مفهوم (السيد) ومفهوم (العبد)، وهو نكتة كبيرة في هذا السياق، لان الموضوع هو توسل بالله تعالى من عبده، والعبد يتجه الى (سيده)، وها هو سيده يعبر عنه ليس بالسيد فحسب بل بـ (سيد السادات)، اي: اذا كان هناك في البيئة البشرية العبيد والسادة، فان الله تعالى هو (سيد السادات)، انه السيد الحقيقي، اما السادات البشرية فهم سادات نسبيون لايقاسون ب سيد السادات (الله تعالى).
بعد ذلك تواجهنا عبارة (يا مجيب الدعوات)... ولا نتامل قليلاً حتى نجد او نكتشف سريعاً نكتة التوسل بالله تعالى يانه (سيد السادات) حتى ندرك بان التوسل يهدف الى رعاية الله تعالى لعبده،... وهل ثمة رعاية اكثر اهمية من ان الله تعالى يستجيب لعبده في انجاز حاجاته؟.. انه يتوسل او يتجه الى الله تعالى (يا مجيب الدعوات)، تعبيراً عن الحقيقة التي اوضحناها الان.
وتواجهنا العبارة الثالثة وهي (يا رافع الدرجات)،.. ترى: ماذا نستخلص من هذه العبارة اولاً؟ ثم ماهي علاقتها بما سبق من التوسل وبما يلحق من التوسل؟.. هذه الاسئلة تحتاج الى الاجابة... ونقول: ان العبد يتفاوت من واحد الى اخر في حجم ايمانه ودرجات ذلك،... ومما لاشك فيه انه يطمح الى الوصول الى الدرجة الرفيعة من منزلته عند الله تعالى،.. وهذا ما يجعله متوسلاً بالله تعالى بان يرفع درجته عنده تعالى، ولكنه لم يقل ذلك مباشرة ً، بل توجّه بعبارة (يا رافع الدرجات) ايجعل قارئ الدعاء متحسساً بأن الهدف هو: ان يرفع تعالى درجة قارئ الدعاء، وهذا من الموضوع بمكان.
بعد ذلك نتجه الى الاجابة عن السؤال الآخر وهو: ما علاقة التوسل برفع الدرجات بما سبقه من التوسل بقضاء الحاجات؟
الجواب: من الوضوح بمكان ايضاً،ألا وهو: بما ان العبد القارئ للدعاء عبّر عن هدفه بعبارة (يا مجيب الدعوات) حينئذ فأن اهم اجابة للدعاء هو: ان يكون العبد عند الله تعالى محتلا ً ارفع الدرجات، حيث ان الرفعة هي الاصل او الرضوان من الله تعالى، حينئذ فأن اجابة الدعوة المتوسلة بالله تعالى بان يرفع درجات قارئ الدعاء: تظل هي المتوخات بطبيعة الحال.
والآن بعد معرفتنا بالعبارات المتقدمة، لا بدّ من مواصلة سائر عبارات المقطع، وهو ما نحدثك عنه لاحقاً ان شاء الله تعالى. نسأله تعالى ان يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب
شرح فقرة: "يا وليّ الحسنات، يا غافر الخطيئات، يا معطي المسئلات..."
عبارة (يا وليّ الحسنات) تتداعى بالذهن الى جملة دلالات، الا ان الدلالة الاقرب الى الذهن هي: انه تعالى يلي امر الحسنات، اي: يتولى الحسنة اما بمعنى هو: انه تعالى صاحب الحسنات: تساوياً مع قوله تعالى (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، او بمعني انه تعالى يحسن الى عباده. وفي الحالتين، فأن الحسنة من الله تعالى.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا غافر الخطيئات)، وهي فقرة لو قارنّاها مع العبارة السابقة، ونعني بها (يا ولي الحسنات).
لامكننا ان نتبين الرابطة بينهما، ألا وهي: انه تعالى صاحب (الحسنات) ويقابله العبد وهو اي العبد صاحب (الخطيئات) فتكون الفسحة: التقابل بين حسنة الله تعالى وخطيئة العبد.
من جانب آخر انه تعالى يتولى الحسنة ويرعاها،.. ويتغاضى عن السيئة او الخطيئة فيمحوها. اذن هو تعالى مع رعاية الحسنة ومحو السيئة.
ثم نواجه عبارة (يا معطي المسألات)... هذه العبارة امتداد لما يسبقها من الموضوعات... فقد لاحظنا انه تعالى يتولى الحسنة ويمحو السيئة، ويتوّج ذلك بأنجاز الحاجات، اي: بعد ان يتولى الحسنة او ينميها، يمسح السيئة ويعفيها، ثم يردف ذلك بعطاء جديد هو: تحقيق طموحات العبد الجديدة وهي حاجاته التي ينتظر تحققها من الله تعالى.
ونواجه عبارة جديدة هي (يا قابل التوبات)... هنا نلفت النظر الى تقابل جديد بين العبارة الحالية (يا قابل التوبات) وبين العبارة السابقة (يا معطي المسألات)، فكما لاحظنا مقابلة بين تولية الحسنة ومحو السيئة، نلاحظ تقابلاً بين اعطاء المسألة وقبول التوبة، ونحسبك هنا تتسائل قائلا ً: كيف ذلك؟
ونجيب: اعطاء المسئلة او تحقيق الامل لدى العبد ينبغي ان يقابله العبد بالطاعة، ولكن رحمة الله تعالى من السعة بحيث يمنح العبد ما يتطلع اليه حتى مع اساءة العبد، ليس ذلك فحسب بل ان يتقبل اساءة العبد من خلال توبته من الاساءة السابقة، وهذا هو منتهى ما نتصوره من العطاء او الرحمة، اي انه تعالى يقبل عذر عبده المسئ، بعد ان يمنحه العطاء الجديد، انه تعالى يعطي العبد ما يتطلع اليه، ويساعد فيما صدر من العبد.
بعد ذلك نواجه عبارات ثلاثاً هي: (يا سامع الاصوات، يا عالم الخفيات، يادافع البليات)، وبها يُختتم المقطع الثاني من دعاء الجوشن.
والسؤال الان هو: ما هي العلاقة بين هذه السمات او الاسماء المتقدمة؟
الجواب: لقد كانت العبارة التي حدثناك عنها تفصيلا ً وهي (يا قابل التوبات) تعني: انه يتقبل توبة العبد فيصبح بعدها نظيفا ً من الاساءة او الخطيئة..
بعد ذلك يوجه العبدُ جملة عطاءات او توقعات تعتل في صدره، انه اي العبد يرفع صوته بالدعاء للحصول على عفاء جديد، فيسمعه تعالى وهو يتمثل في عبارة (يا سامع الاصوات)، كما ان العبد لا يزال يحمل في صدره اكثر من مطلب خفي في اعماقه، وهذا ما يجد جوابا ً هو (يا عالم الخفيات)... وأخيرا، بما ان الحياة تحفل بالشدائد: حينئذ فأن الله تعالى يدفعها عن عبده، وهو ما يتمثل في عبارة (يا دافع البليات).
نسأله تعالى ان يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والشكر على معطيات الله تعالى، والتصاعد بممارسة الطاعة الشكر الى النحو المطلوب.
*******
شرح فقرة: "يا خير الغافرين، ياخير الفاتحين، يا خير الناصرين، يا خير الحاكمين..."
المقطع الباديء بهذه الفقرات من اسماء الله تعالى (يا خير الغافرين، ياخير الفاتحين، يا خير الناصرين، يا خير الحاكمين، يا خير الرازقين، يا خير الوارثين، يا خير الحامدين، يا خير الذاكرين، يا خير المنزلين، يا خير المحسنين).
هذا المقطع هو احد المقاطع المائة، فيما ينتظم كل مقطع عشر سمات من صفات الله تعالى، ويعنينا الان ملاحظة فقرات العشر، ومنها الاولى وهي الفقرة القائلة (يا خير الغافرين)، ... فماذا نستخلص منها؟
قبل ان نحدثك عن هذه العبارة، وهي من الوضوح بمكان كبير، يتعين علينا ان نلفت نظرك الى كلمة (خير) حيث تتكرر عشر مرات في المقطع باكمله.
والسؤال المهم هو: ان الله تعالى هو (الغافر) الوحيد لذنوب العبد،... فلماذا يقول النص (يا خير الغافرين).
الجواب: صحيح ان الله تعالى هو المنفرد بغفران ذنوب العبد، الا ان الدعاء يستهدف لَفْتَ انتباهنا الى نوعية غفرانه تعالى ان الله تعالى سمح لعباده ان يمارسوا العفواً والصفح والتنازل ...، بمعنى ان العبد بمقدوره ان يسامح الاخر اذا اساء، وان يغفر له زلته، ولكن لو قارنا هذه القدرة المحدودة للبشر التي منحها الله تعالى اياه، بقدرته تعالى: حينئذ لامجال للمقارنة، ولكن الدعاء يستهدف الاشارة الى انه (خير) غافر بالقياس الى الغفران المحدود للعباد وهذا يعني ان الله تعالى هو المنفرد بقدرته على غفران الذنوب لعبده وهكذا بالنسبة الى سائر السمات اوالصفات الواردة في مقطع الدعاء، ومنها: السمة الثانية وهي (يا خير الفاتحين)، ... فماذا نستلهم من العبارة المذكورة؟
ان كلمة (الفتح) من حيث اللغة تنسحب على دلالات متنوعة، منها: العلم، والمعرفة، والبوح بالسر، الكشف، والنصر،... وقد وردت الصفة المبالغة وهي كلمة (فتاح) لتشير الى الدلالات المتقدمة وسواها...
ان الله تعالى فتاح للخير في شتى مستوياته، انه فتاح لابواب الرحمة، فتاح لابواب الرزق، فتاح لابواب النصر، وهكذا من هنا يمكننا ان نقرر بان الفتح هو رمز لكل ما نتصور من الرحمة الالهية، انها تقترن بكلمة (النصر) ايضا، وكذلك نجد ان السمة الثالثة في مقطع الدعاء تجيء متساوية مع الفتح، وهي (النصر) حيث قال مقطع الدعاء (يا خير الناصرين)، اذن نتحدث عن العبارة الثالثة الان...
ان عبارة (يا خير الناصرين)، لانعتقد ان احدا منا يجهل دلالة النصر،... انها من الوضوح بمكان كبير، حيث ان (النصر) هو: رعاية ومساعدة الله تعالى لعبده في تغلبه على الشدائد، انه تعالى ينصر عبده في تجاوز شدائده المتنوعة، حيث يوكل ملائكته بحفظه، وينصره على عدوه،... لكن ينبغي ان نضع في الاعتبار: العبارة المشهورة (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)،... ان هذه العبارة تحتل اهمية عظمى في مسائلة نصر الله تعالى لعبده ... لكن ينبغي ان نسلط الانارة على مفهوم (النصر) من العبد، مقارنا ً بالنصر من الله تعالى.
ان الله تعالى لايحتاج الى نصرة عبده: كما هو بديهي، فلماذا تقول العبارة (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ)؟
الجواب: ان (النصر) هنا هو: الطاعة، اي هو (رمز) بمعنى آخر، فيكون المعنى: إِن تُطِيعُوا اللَّهَ تعالى يَنصُرْكُمْ على الشدائد التي تواجهونها في الدنيا والاخرة ايضاً.
بعدئذ تواجهنا العبارة (يا خير الحاكمين) ... فماذا تعني؟
ان الذهن ينصرف من (الحاكمية) الى حكم الله تعالى حيال عبده او عباده في مختلف شؤنهم انه تعالى ينصر عبده حين يحتكم اليه من ظلم الاخرين، وانه تعالى يفصل بين عباده فيما يختلفون فيه، وانه تعالى يعطي لكل ذي حق ٍ حقه، وهكذا.
اذن الحاكمية هنا تعني اعطاء كل ذي حقّ حقه في مختلف ما نتصوره من الفصل او النصر او الحكم على هذا العبد او الشيء ....
بعد ذلك تواجهنا العبارة القائلة (يا خير الرازقين) فماذا نستلهم منها:
ان هذه العبارة مع وضوحها الشديد يحتاج الى حديث مفصّل عنها (وهذا ما نعدك به في لقاء لاحق ان شاء الله تعالى) نسأله تعالى ان يوفقنا الى ممارسة الطاعة والتصاعد بها الى النحو المطلوب
شرح فقرة: "يا خير الرازقين"
نواصل حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها: الدعاء الموسوم بـ(الجوشن الكبير)، ونحن الآن مع مقطعه الثالث، حيث حدثناك عن بعض عباراته، ونحدثك الان عمّا بقي من المقطع، وهو عبارة (يا خير الرازقين) وما بعدها.
طبيعياً لا نعتقد ان احد منا يجهل هذه العبارة ودلالتها الواضحة، الا ان ظاهرة الرزق تحتاج الى توضيح في مصدره ومستوياته، وهو ما نحاول عرضه الان فنقول: ان الرزق لعل الاشد من غيره تأكيداً من حيث كونه نازلاً من السماء، بدليل ان المعصوم عليه السلام عندما سُئل كيف يرزق الله تعالى الانسان، فأجاب عليه السلام بما مؤداه: كما يميت الله تعالى الانسان يرزق.
وعندما تقول العبارة ان الله تعالى هو (خير الرازقين)، فلا بد ان تكون ثمّة نكتة تقول: بأن الرزق اذا كان من الممكن ان يسعى الى تهيئته شخص ما الى آخر (كالرجل بالنسبة الى اهله واولاده مثلا) فأن الله تعالى هو خير من يحقق ذلك.
ولكن لندع هذا الجانب، ونطرح موضوعاً آخر هو: هل ان الرزق (اذا كان كالموت) يأتي الانسان حتى لو لم يسعَ من أجله؟ الجواب هو: ان الرزق كما ورد عن المعصوم(ع) رزقان: رزق يطلبك ورزق تطلبه، فما كان من النمط الاول فأن الرزق يأتي الانسان كما يأتيه الموت، كيف ذلك؟
قبل ان نجيب عن السؤال المتقدم ينبغي لفت النظر الى جملة نكات، منها: ان درجة وعي الانسان تتدخل في تحديد رزقه من حيث السعة او ضدها، ومنها: ان نمط توكله يتدخل في ذلك، فمثلا ورد حديث عن المعصوم(ع) مؤداه هو: اذا بسطتَ بساطك فقد قضيت ما عليك، اي: اذا عرض الشخص سلعته (بغض النظر عن مكان ذلك او نمطها فان الرزق يتحقق)، وهذا يعني ان ما يعتقده الناس من ان الاعلان او المكان التجاري المعروف هو احد عوامل الرزق وسعته: يظل من الخطأ بمكان كبير، ولعل التجارب المتنوعة لاشخاص يعرضون سلعتهم حتى في دورهم: تؤكد هذه الحقيقة.
يضاف الى ما تقدم: ما تؤكده النصوص الشرعية من ان الله تعالى وسع في رزق الحمقى حتى يتعظ الآخرون بان الذكاء ونحوه لايتدخل في الرزق بقدر ما يتحدد الرزق سعة ً و ضيقاً بما هو مقدر من الله تعالى وصلة ذلك بمصلحة الشخص، اي: ان الله تعالى يرزق هذا الشخص بنحو واسع لانه يستثمر ذلك في مجالات الطاعة، والعكس كذلك.
ثمة ملاحظة مهمة ايضاَ هي: ان المعصية، وعدم الالتزام بما ورد من التوصيات المحققة للرزق تتدخل بدروها في تحديد ذلك، فمثلاً ورد بان النوم بين الطلوعين، يحرم الانسان من سعة الرزق، هكذا... كما ورد ان الالتزام ببعض الادعية يتدخل بدوره في سعة الرزق، وهكذا.
اخيراً لابد وان نعقب موضحين على المقولة الذاهبة بان الرزق رزقان: رزق تطلبه و رزق يطلبك، وذلك بان نضع في الاعتبار ان الرزق المحدد من الله تعالى هو المقدر للانسان مهما كانت ظروفه ونشاطه ودرجة ذكائه، بيد ان الرزق غير المحدد وهو المرتبط بنشاط الانسان هو ما يعنيه الشطر الاخر من التوصية او التقرير الاسلامي القائل بان سعي الشخصية يتكفل بما يطلبه من الرزق.
ولكن في الحالتين حتى الرزق الذي يطلبه الانسان يظل مرتبطاً بتحديد الله تعالى، اي: ان الرزق المرتبط بسعي الانسان يظل بدوره مقدرا بقدر ما حدده تعالى لعبده، وعليه الا يعتقد بان ذكاءه او موقعية تجارته لهما دخل في سعة رزقه، بل يظل هذا الرزق بدوره محكوماً بما قدره تعالى من السعة او القتر.
اذن امكننا ان نعقب على عبارة (يا خير الرازقين)، بما يواكبها من قضايا تتصل بالرزق، سائلين الله تعالى ان يرزقنا خير الدنيا والآخرة، وان يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب
شرح فقرة: "يا خير الوارثين، يا خير الحامدين، يا خير الذاكرين..."
نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها: الدعاء الموسوم بـ(الجوشن الكبير) حيث حدثناك عن مقطع الثالث في قسم منه، ونحدثك الآن عن القسم الآخر من المقطع المذكور، وهو عبارة (يا خير الوارثين) وما بعدها. فماذا نستخلص منها؟
ان قارئ الدعاء لا بد وان يتداعى الى ذهنه، بأن الله تعالى عندما يكون (خير الوارثين) فلأن وراثة الشيء تعني: القيام بما يرتبط بأمور ذلك الشيء، فالوراثة هي: تسلم الامر، وعندما ننتقل من ملاحظة الوراثة البشرية الى وراثة الله تعالى، يمكننا ان نستخلص ما يلي:
ان الله تعالى هو خير من نطمح الى رعايته لشوؤننا، انه تعالى لا يرفع عنايته عنا لحظة ابداً، لان رفع العناية هو: انعدام الفاعلية في الكون: طالما نعرف بوضوح ان كلّ الكون قائم على رعايته تعالى ولا شريك له في ذلك.
اذن هو خير من يتولى برعايته شؤوننا ولا احد سواه يضطلع بذلك، انه يرسل الحفظة من الملائكة مثلا لحفظنا من الاسواء، انه يرعانا من خلال ما يوظفه من قوى مختلفة.
بعد ذلك نواجه عبارة (يا خير الحامدين)، فماذا نستخلص منها؟
الجواب: ان الله تعالى يحمد عباده ويشكرهم ويجازيهم و...، بأضعاف ما يصدر عنهم من الحمد لله تعالى، انه يمنح الكثير من العطاء بالقليل من العمل، ألم نقرأ الدعاء القائل (يا من يعطي الكثير بالقليل)؟
انه الحمد من خير الحامدين، انه تعالى وهو مطلق الخير، لا بد وان نعرف بأنه لا نهاية لما يصدر من الخير حيالنا وكفى ان نجده (خير حامد ٍ).
بعدها نواجه عبارة (يا خير الذاكرين): فماذا نستلهم منها؟
الجواب: ان الله تعالى (يذكر عباده بالخير) وهذا مما لا شك فيه البتة والذكر هنا يعني: رعايته تعالى ايضاً لعباده، وهو ما يتجانس مع العبارات السابقة في مقطع الدعاء، اي: ثمة دلالات مشتركة بين كونه تعالى (وارثاً) وكونه تعالى (حامداً) وكونه تعالى (ذاكراً).
ان التجربة البشرية اذا كانت ذاكرة في تقديمها العطاء للآخر، فان الذكر هنا محدود بطبيعة الحال، حيث لا تسمح المحدودية بتحقيق الاشباع للآخر، بالعكس من الاشباع الذي يحققه تعالى لعبده وهذا كله فيما اذا قارنا بين ذكر الله تعالى لعباده وذكر العباد للآخرين او استثمار الذكر لحمد الله تعالى وتمجيده.
ولكن اذا قارنا الذكر بعدم تحققه البتة لدى البشر في بعض نماذجه، حينئذ يكون (الذاكر) - وهو الله تعالى - هو المتفرد في عطائه ورعايته لعباده كما هو واضح.
بعدها نواجه عبارة (يا خير المنزلين) وعبارة (يا خير المحسنين) وبهما يُختم المقطع، فماذا نستخلص منهما؟
بالنسبة الى عبارة (يا خير المنزلين)، تجعلنا نتداعى باذهاننا الى الآية القرآنية الكريمة «وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ»، اذن (خير المنزلين) هي عبارة قرآنية كريمة اقتبسها الدعاء، ومرّرها في المقطع المشار اليه ولكن ماذا تعني العبارة؟
العبارة هي - كما اشرنا - اقتباس او تضمين او تناص، كما تعبر اللغة المعاصرة عنه (من الزاوية الفنية) الا ان استثمارها من حادثة تاريخية وهي: حادثة الطوفان، حيث جاءت العبارة تعقيبا على انقاذ الله تعالى عباده المخلصين من الغرق في حادثة السفينة التي حملتهم وانزلتهم منزلاً مباركاً، وهذا يعني ان العبارة تستهدف الى الاشارة الى ان الله تعالى هو خير من يُنزل عباده الى النجاة، سواء اكانت النجاة دنيوياً او اخروياً، ولهذا تتجانس العبارة مع سابقاتها (الوارث، والحامد، والذاكر)... كما تتجانس مع العبارة الاخيرة من المقطع وهي عبارة (يا خير المحسنين) (فيما سنحدثك عنها في لقاء لاحق ان شاء الله تعالى..).
ختاماً نسأله تعالى ان ينزلنا خير مُنزل، انه خير المنزلين، كما نسأله تعالى ان يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب
شرح فقرة: "يا خير المحسنين، يا من له العزة والجمال..."
نحن الان مع العبارة الاخيرة من المقطع الثالث من دعاء الجوشن الكبير، متمثلاً بعبارة (يا خير المحسنين)، فماذا يمكننا ان نستلهم من العبارة المذكورة؟
في تصورنا ان عبارة (يا خير المحسنين) لا يمكن ان نتبين مدى ابداً، ان القلم ليعجز كل العجز عن الاحاطة بما تعنيه هذه العبارة، ونحن نذكرك بالاية القرانية الكريمة القائلة: «هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ»؟، اي: ان الله تعالى يقول: كما ان العبد احسن في طاعته، فسنجازيه على احسانه المتقدم، ولكن ما هو احسان العبد بالقياس الى احسان الله تعالى؟
ألم نستخلص بوضوح بان عبارة الدعاء القائلة (يا خير المحسنين) لا تقاس البتة بأحسان العبد؟ اي: ان كلمة (خير) هي تجسيد لما لا نهاية له من الخير الصادر من الله تعالى حيال عبده، كيف ذلك؟
لقد وردت الاية الكريمة القائلة «هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ» في سورة الرحمن، في سياق الحديث عن الخائفين مقام ربهم، اي: ما نقلته الاية المباركة «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ».
ان الخائف مقام ربه هو: الذي اطاع الله تعالى ولكن الاطاعة المحدودة المتمثلة في سنوات معدودة يمارسها الطائعون هل تقاس بالخلود الذي هيأه تهالى للخائفين؟
هل يقاس الجزاء الذي رتبه الله تعالى لهؤلاء مع طاعتهم المحدودة تبعاً للمقولة المعروفة بأن الله تعالى لا يُعبد حق عبادته؟ ان من يقرأ الجزء الذي رسمته سورة الرحمن لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، وهو الجنتان، ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ، فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ...، فضلاً عن رضوانه تعالى، نقول هل يقاس هذا النعيم الخالد مع طاعة الخائفين مقام ربهم؟
بطبيعة الحال: كلا ّ ولذلك جاء في عبارة الدعاء (يا خير المحسنين)، حيث لا احسان يماثل احسان الله تعالى.
بعد ذلك نتجه الى المقطع الرابع من الدعاء وهو القائل (يا من له العزّة الجمال، يا من له القدرة والكمال، يا من له الملك والجلال، يا من هو الكبير المتعال، يا منشأ السحاب الثقال، يا من هو شديد المحال، يا من هو سريع الحساب، يا من هو شديد العقاب، يا من عنده حسن الثواب، يا من عنده ام الكتاب).
هنا قبل ان نحدثك عن السمات او الاسماء او الصفات العشر المذكورة في المقطع المتقدم، نود ان نؤكد حقيقة في غاية الاهمية هي: ان دعاء الجوشن وسائر الادعية التي تتضمن مقاطع متنوعة، ويتضمن كل مقطع ظواهر متنوعة: لا بد وان يكون لهذا التنوع من عنصر مشارك او متجانس فيما بين ظواهره.
وبكلمة اكثر وضوحاً: لا بد وان تكون عبارة (يا من له العزة والجمال) مثلاً لها علاقة تجانس مع العبارة الاخيرة من المقطع (يا من عنده ام الكتاب) ومع سائر العبارات في المقطع وهذا هو احد نكات النصوص الشرعية في صياغة الظواهر المتنوعة من خلال (وحدة) الافكار او الاهداف.
وخارجاً عن ذلك: يحسن بنا متابعة هذه السمات ونبدأ ذلك بعبارة (يا من له العزة والجمال).
ان كلاًمن (العزة والجمال) يتصلان بدلالة مشتركة من جانب، ومستقلة من جانب آخر، اما المشترك فهو: ان (العزة) هي التعاظم او التغالب او المَنعة التي لا تعجزها الاشياء، حيث يختص تعالى بها، واما الجمال فهو: الصفات الذاتية لله تعالى مثل: العلم والارادة والقدرة، وهذا يعني: انه تعالى له المنعة المطلقة متجانسة مع صفات التوحد الذاتي: كالسمات المتقدمة من العلم والارادة والقدرة، حيث ان مطلق القدرة متجانسة مع مطلق المنعة وهي: العزة المتفرد بها تعالى.
والمهم الآن هو: ملاحظة هاتين السمتين من حيث استقلالية كل منهما بعد ملاحظة اشتراكهما، وهذا ما يتمثل في كونه (العزة) هي: عظمة الذات، بينما الجمال هو: السمات المتنوعة لعظمته تعالى وسنرى عند متابعتنا للعبارات او السمات التي انتظمها مقطع الدعاء الرابع مثل: (يا من له القدرة والكمال) و (يا من له الملك والجلال)، بالاضافة الى ظواهر متميزة عن سابقتها مثل (يا من عنده حسن الثواب) مثلاً وسواها: تظل ظواهر متجانسة ومتميزة عن بعضها (كما سنوضح ذلك في لقاءات لاحقة ان شاء الله تعالى).
ختاماً نسأله تعالى ان يوفقنا الى العزة النسبية لعظمته تعالى، وان يوفقنا الى ممارسة الطاعة، والتصاعد بها الى النحو المطلوب
شرح فقرة: "يا من له القدرة والكمال، يا من له الملك والجلال"
نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها دعاء (الجوشن الكبير) حيث حدثناك عن مقاطعه الاولى، وانتتهينا من ذلك الى مقطع ورد فيه (يا من له العزة والجمال، يا من له القدرة والكمال، يا من له الملك والجلال...).
وقد حدثناك في لقاء سابق عن الفقرة الاولى من ذلك المقطع وهي (يا من له العزة والجمال)، اما الآن فنحدثك عمّا بعدها، وهي فقرة (يا من له القدرة والكمال)، وهذا ما نبدأ به الآن:
ان (القدرة) و (الكمال) من الصفات الالهية التي تتسم - كما هي سائر صفاته تعالى بما هو مطلق، اي بما هو غير محدود.
وبالنسبة الى (القدرة) فأن مقولة «كُن فَيَكُونُ»، تظل هي التعبير الاشد وضوحاً في الكشف عن لا محدودية قدرته تعالى واهمية القدرة تتمثل في احد مظاهر العظمة من حيث انسحابها على الكون وما يستهدفه تعالى من ايجاده وهو ممارسة العمل العبادي: تبعاً للعبارة القرآنية الكريمة التي لا نملّ من تكرارها في احاديثنا مما يتعين على الجميع استحضارها في الذهن الا وهي قوله تعالى «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» وقد سخّر تعالى هذا الكون لتجسيد قدرته تعالى وتمرير الهدف العبادي المذكور من خلال ذلك،
حيث ان السماوات والارض وما بينهما تظل ممارسة للهدف العبادي المتقدم: الشياطين والانس مما لا قيمة لعددهم، حيث ان القدرة العقابية لله تعالى كفيلة بأزاحتهم عن الساحة الالهية.
ونتجه الى صفة (الكمال) التي قرنها مقطع الدعاء بصفة (القدرة) ، حيث تستوقفنا هذه الصفة من خلال ورودها متزاوجة مع صفة (القدرة) ، والا كان بالامكان فصلها في مقطع مستقل كما هو ملاحظ في عشرات المقاطع من الدعاء، فما هو سرّ ذلك؟
في تصورنا بما ان صفة (الكمال) تعني: تمامية ما يمكن تصوره من السداد في مطلق الظواهر: حينئذ فأن القدرة المقترنة بها تعني: تسخير القدرة من خلال صوابية وسداد التسخير لصالح الوجود البشري ومطلق مظاهر الخلق.
ان (كمال) الله تعالى يعني عدم تصور اي احتمال لما هو نقص او سلب او حاجة لغير الذات الالهية، ان نَفس امره تعالى بممارستنا العبادية هو: استغناء وعدم حاجة اليها بقدر ما هو حاجة بشرية وسواها من المخلوقات، وهذا يفسر لنا اولاً ان كل ما يصدر من الاوامر انما هو لمصلحة المخلوقات في مصلحة المخلوقات فيما لا نقص فيها، وهو امر يحمل المشككين او ضعاف النفس الى القناعة تماماً بأن ما عدا ما هو صادر عن الله تعالى: انما هو قصور من المخلوقين، اي: ان اية مبادئ بشرية منعزلة عن الله تعالى: انما هي مبادئ لا تملك الكمال الفكري: كما هو واضح، بقدر ما ينحصر الكمال في مبادئ الله تعالى وهذا من الوضوح بمكان كبير.
ونتجه الى صفة اخرى هي ما ورد في المقطع (يا من له الملك والجلال)، هنا ينبغي ايضاً ان نربط بين هاتين الصفتين اللتين وردتا متزاوجتين غير منفصلتين، اي: مجانسة كل منهما للاخرى، فماذا نستخلص منهما؟
بالنسبة الى صفة (الملك)، فأن الذهن يتداعى سريعاً الى ان الله تعالى هو الملك او المالك لناصية الوجود بالنحو المطلق، ولا يحتاج الذهن الى جهد كبير في استخلاص ان الملك لله تعالى وحده لا شريك له في ذلك.
بيد ان ما يستدعي الكامل هو: ما هو السّر الكامن وراء الربط بين صفة (الملك) وصفة (الجلال)؟
عادة يتعرض المعنيون بشؤون الائمة (عليهم السلام) الى صفة (الجلالة) مقابلة لصفة (الجمالية)، اي: ان الصفات الجنالية التي سبق ان حدثناك عنها في لقاء سابق، تقابلها الصفات الجلالية التي تعني نفي الصفات السلبية عنه تعالى: كالشريك مثلاً،... وما يعنينا هو: ان اقتران (الملك) مع عدم (الشريك) للمالكية المذكورة: انما هو تأكيد لتفرده ووحدانيته تعالى: كما هو واضح.
اذن امكننا ان نتبين - ولو سريعاً - جانباً مما يمكن استخلاصه من فقرات الدعاء المذكور، سائلين الله تعالى ان يوفقنا الى طاعته، والتصاعد بها الى النحو المطلوب.