الإمام علي عليه السلام عظمة ذات أسرار
وعن هذه المواهب الإلهية، والمنح الخاصة، تتفرع سائر خصال أمير المؤمنين وصفاته التي تجسدت في مناقبه وفضائله وعموم سيرته وسلوكه عليه سلام الله. فعن الموهبة الإلهية الأولى، وهي قلبه الواسع، تنبعث خصال عمق الإيمان واليقين، والحلم والصبر، والرحمة...
الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام، قدوة وإمام وأسوة، يفترض بالإنسان ان يتساءل حينما يقف أمامها:
ما هو سر العظمة في هذه الشخصية الإنسانية المثلى، التي لم ينجب التاريخ لها مثيلا، بعد سيدها ومعلمها الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
ويفترض به، ان يتساءل، أيضا:
أية شخصية عظيمة هذه، التي انطقت ألسنة الاعداء، فمدحوها قائلين:
علي الدر والذهب المصفى وباقي الناس كلهم تراب؟
ان الله سبحانه، لم يك ينعم على البشرية بهذا النور الملكوتي المجسد في شخصية أمير المؤمنين سلام الله عليه، إلا لعبرة وسر، وهذا السر المقدس، يمكننا ان نكتشف جوانب منه، بقدر إيماننا واستلهامنا من نور الولاية الذي من الله تعالى به علينا.
ما هو سر ولايتنا لعلي عليه السلام، وما هو سر الأمر الإلهي المكرر والمؤكد بأن نحبه وأبناءه ونواليهم؟ وما هو سر هذه الصلة الوثيقة، والعلاقة الوطيدة، بين حب الإمام صلوات الله عليه وبين أعظم نعم الله، وهي الجنة، أو بمعنى آخر، لماذا جعلت الجنة لمحبيه عليه السلام ومواليه؟
لقد أعطى الرب الجليل، لهذا العبد الكامل ثلاثة أشياء، وهي:
1- قلب كبير يغمره الحب.
2- وعقل نير يشع فيه ومنه نور الإيمان والقرآن؛ فكان (ع) المشكاة التي أخبر عنها الكتاب المجيد.
3- وإرادة قوية وماضية.
وعن هذه المواهب الإلهية، والمنح الخاصة، تتفرع سائر خصال أمير المؤمنين وصفاته التي تجسدت في مناقبه وفضائله وعموم سيرته وسلوكه عليه سلام الله.
فعن الموهبة الإلهية الأولى، وهي قلبه الواسع، تنبعث خصال عمق الإيمان واليقين، والحلم والصبر، والرحمة والرأفة، والعطف والصفح.. وغير ذلك، من الخصال النبيلة المتعلقة بالقلب.
وعن الموهبة الإلهية الثانية، وهي العقل النير؛ تنبعث صفات الحكمة والعلم، والنظر العميق، والتبصر والعلم بالقرآن وفقهه، وما إلى ذلك من الصفات المتعلقة بنور العقل.
أما الموهبة الثالثة، وهي الإرادة القوية والماضية، فتنبعث عنها الخصال المتعلقة بها، كالشجاعة والثبات والإستقامة وتحمل الصعاب، والصمود على المبدأ.. وغير ذلك، من عشرات الخصال المتعلقة بالإرادة القوية والماضية.
القلب الكبير
ان قلب علي سلام الله عليه بلغ من الرحابة والسعة، بحيث أصبح أعظم ما يرومه الإنسان، ويطمح إلى نيله في هذه الدنيا. لم يكن شيئا يذكر في ناظر أمير المؤمنين، ولم يكن في قلبه أدنى رغبة فيه، وهل هناك في هذه الحياة الدنيا شيء أعظم من الإمرة والحكم؟ فرغم ما كان لإمرة المسلمين، من أهمية بالغة في حياة الأمة، وتقرير مصيرها، وتعيين وجهتها في الحياة، ورغم ما فيها من مسؤولية إلهية عظيمة وخطيرة، لما كان أمير المؤمنين يلتفت إلى الإمارة أدنى التفات، وهو الذي قيل فيه ان الخلافة زانت من قبله ومن بعده ممن حكموا، إلا هو (عليه السلام) فإنه هو الذي زانها.
نظراته الثاقبة
لقد كان قلب علي عليه السلام أوسع من الحاضر، فهو لم يكن في نظراته الشريفة يكتفي بمجال عصره وزمانه، وإنما كانت نظراته ورؤاه ثاقبة، تخرق جدار الزمان إلى المستقبل البعيد.
كان ينظر إلى مستقبل هذه الأمة، بل والإنسانية جمعاء، من خلال عمله وجهده وجهاده. فيوم كان يحارب في البصرة، أو يوم صفين، أو النهروان، كان ينظر إلى راية حفيده الإمام الحجة بن الحسن (عجل الله تعالى فرجه)، خفاقة على ربوع هذه الأرض، من بعد أنينها وصراخها، لما تحمل فوق ظهرها من جور ومظالم، وسفك للدماء البريئة بغير وجه حق، وكان يرى الأرض وقد امتلأت بالقسط والعدل والرخاء والسعادة.
هكذا كانت نظرة علي (ع) واستبشاره بتلك العاقبة الطيبة، التي كان يطل عليها بنظره الثاقب. لذلك تجاوز ـ عليه السلام ـ زمانه وعصره.
وقد وسع قلب الإمام علي (ع) الزمان كله، بل وسع الآخرة بعد الدنيا وانقضائها. فقد نظر نظرة إلى النار، وآخر إلى الجنة، فتجاوز الخوف من النار وما فيها من أهوال، وتخطى الرغبة في الجنة وما فيها من المنازل والنعيم المقيم؛ فبلغت سعة قلبه حدا أخذ يناجي فيه ربه، لأهليته تعالى بالربوبية، لا طمعا في جنته، أو خوفا من ناره، وإنما وجده أهلا للعبادة، فلم يطلب عنه بدلا.
ها هو ذات قلب علي (ع) المغمور بالحب الإلهي، والذي تحول إلى فيض من الرحمة والعاطفة.
قلب يتفجر عاطفة
فحين الحرب، يحتاج المقاتل إلى ان يضع العاطفة جنبا، ويشحن نفسه بالشدة والحدية في التعامل مع الأعداء، وإلى الحماسة حين يشتد الضراب، وقد لا يحاسب الإنسان على فضاضته وحدته في تلك الساعات، لكننا نجد قلب علي (ع) يتفجر عاطفة عندها، إذ يحمل سيفه ويقاتل، ويبكي في الوقت ذاته على أعدائه لأنهم يدخلون النار بسبب معاندته، والخروج على طاعته ـ عليه السلام ـ.
كان قلبه عامرا بالحب الصميمي، فقد أحب رسول الله حبا جعله يقدم نفسه لكي تسلم نفس رسول الله (ص)، وتلك الشواهد على ذلك، يوم نام على فراشه، وأيام وقاه بنفسه في حروبه وغزواته.
العقل النير
لقد وهب الله لعلي (ع) عقلا، استوعب به علم البلايا والمنايا، واكتشف به طرق السموات وما تحت الأرضين.
وكان نهج البلاغة وما فيه، شعاع من علم علي (ع) الذي قال فيه رسول الله (ص):
(أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها).
وكرر رسول الله (ص) خطابه للأمة بشأنه، ومقامه في العلم والفقه والقضاء، الذي لا ينازعه فيه أحد من البشر، إذ قال (ص): أفقهكم علي، وأعلمكم علي، وأقضاكم علي.
انه صاحب العقل النير الذي يستوعب حياة الإنسانية. وكل حركة وسكنة في حياته (ع)، لابد من ان تخضع لعقله الجبار الذي وهبه الله سبحانه له، والذي هو امتداد لذلك النور القديم الذي خلقه الله من قبل ان يخلق الخلائق أجمع، وقبل ان يفطر السموات والأرضين.
الإرادة القوية النافذة
وكانت لعلي ـ صلوات الله عليه ـ إرادة صلبة، ماضية، نافذة لا تقهر، ولا تنال منها عواصف الضغوط وزوابع المشاكل، مهما تراكمت.
ويكفي انه (ع) مدرسة الإرادة الماضية، التي تخرج منها تلاميذ كعمار وميثم وحجر وغيرهم من الأصحاب والتابعين الذين كان يضرب المثل بإرادتهم وصلابتها، تلك الإرادة التي نفذ لها صبر الأمويين والعباسيين، ومرغت غطرستهم في الوحل.
لقد أرادوا ان يدخلوه (ع) في اللعبة الأموية الماكرة، بأن يتقبل سيرة غيره من غير رسول الله (ص)، المتلخصة بإبقاء الشام وجيشه تحت الوصاية الأموية، فأبى، وهذا الاختبار كان بمثابة أعظم اختبار لإرادته القوية النافذة، التي لا تهتز ولا تنحرف ولا تتبدل.
ربيب القرآن
من أين مصدر خصاله ومناقبه وسجاياه هذه؟
انه القرآن، وحضن النبوة ووحيها.
لقد كان الإمام علي عليه السلام ربيب القرآن، وكان خلقه وقلبه وعقله وإرادته نتاجات للقرآن. فإذا كان قلبه قد وسع الكون الرحيب والدنيا وما فيها، فذلك لأنه اتصل بنور ربه.
فقد كان ـ في كل ليلة من لياليه ـ يستمد عزما جديدا، وروحا جديد ـ من مناجاته ودعائه وتبتله وتهجده.
وإذا كانت إرادته عليه السلام، هي تلك الإرادة النافذة التي قاوم بها كل الضغوط وزوابع المكر، فإن سرها ينبع من عظمة توكله على الله، والتوكل على الله هو قمة القيم ورأس كل فضيلة.
هذه هي المدرسة العلوية، مدرسة القرآن والتوكل على الله، أولا وآخرا.